مرورا بالأمراض المميتة والسرطان، وانتهاء بالزهايمر والايدز، ربما يبدو السكري اقل الأمراض فتكا. فاذا لم نستطع قهره فانه من اكثر الامراض شيوعا كمرض سهل السيطرة عليه بالرغم من كونه بلاء حقيقيا.
فالأشخاص المصابون بمرض السكري يتحدثون عن معايشتهم مرضهم وليس عن الموت بسببه. ولإثبات هذه النقطة فانهم يسعون قدما ليعيشوا حياة ناشطة ومنتجة.
وعلى أية حال، فقد وجد مؤخرا أن معظمهم اكتشف ان هذا المرض الغادر يقلل من عزائهم في السيطرة عليه، فهو يبدو كالبركان متجدد النشاط لطالما يتظاهر بالخمود ليعاود ثورانه فجأة بمنتهی الوحشية، خذ في الاعتبار حالة احد المرضى الذي ظن في البداية أنه مصاب بنوع خفيف من مرض السكري وانه ليس بحاجة لعلاج ينظم زيادة السكري في الدم الذي سببه المرض. واستعاض عن ذلك بمراقبة غذائه بدقة متناهية، وبعد مضي عامين تجول هذا المواطن حافي القدمين على رصيف قرب الشاطئ تلفحه حرارة الشمس مما قرح قدميه. ولسوء حظه فان تقرحات قدمه اليمنى لم تتماثل للشفاء، وبعد مرور عدة شهور اصبحت اصابتها بليغة مما ادى الى بترها.
يقول هذا المريض : «ان هذه الاصابة هي مضاعفات نجمت مباشرة عن تطور المرض البطيء»، ويضيف: «يمكن لهذا المرض ان يتسلل اليك بالفعل».
ولان اعراض مرض السكري تكون عادة خفيفة مثل: «الاجهاد وكثرة التبول»، فان نصف المصابين بمرض السكري غير متيقنين بوجود المرض لديهم، حتى بعد التشخيص، يخفق معظم المرضى في أخذ هذا المرض على محمل الجد كما يجب، «ففي البداية، كل شيء يبدو جيدا»، يتنهد احد المرضى الذين يتلقون علاج السكري قائلا « انك لا تعرف ما هي المشكلات التي ستحل بك فيما بعد».
نعم، هذا تصريح صحیح، اذ ان السكري لا يضاعف مخاطر قصور القلب من سكتة ونوبة، ولكنه يعتبر السبب المؤدي إلى العمى في البالغين، ويعد ثالث مسبب لجميع حالات الفشل الكلوي، في حين أن الجروح المؤذية هي المسؤولة فقط عن عمليات البتر العديدة، ومضاعفات هذه العوامل مجتمعة، تجعل من مرض السكري سابع مسبب للوفاة في الولايات المتحدة مثلا.
لحسن الحظ، فمع تنامي الوعي بان مرض السكري يعتبر قاتلا حقيقيا، فقد توصل العلماء إلى تعرف مسببات المرض وكيفية نزع فتيله ويتزايد تناول الباحثين بتطوير علاج يستطيع وقف هذا البلاء في حالات كثيرة.
پنجم مرض السكري عن عدم القدرة على انتاج الأنسولين او عدم الاستجابة له بشكل فاعل، فالانسولين هرمون يصنع في البنكرياس، ويؤدي الى تمكين العضلات والدهون وخلايا الكبد من امتصاص سكر الجلوكوز، مصدر الطاقة الحقيقي في الجسم، اذ لا يتحول السكر مباشرة الى طاقة في داخل الجسم، ولكنه يخزن عادة لاستخدامه في المستقبل، ولكن عندما يعجز الجسم عن انتاج الانسولين، فان الجلوكوز الزائد يتراكم في الدم بدلا من ان يخزن، ويتضح ذلك في البول.
ففي بداية مرض السكري، فان فقدان بعض السعرات عن طريق البول يودي عادة الى نقصان في الوزن، وفي الحالات الشديدة حيث تعاني الخلايا الحرمان من السكر وقودها المفضل يختل حرق الاحماض الدهنية ، مما يؤدي الى تسمم مجرى الدم بالنواتج السامة.
في النوع الأول من مرض السكري الذي يتفشى بشكل كبير في الأطفال، يفقد الجسم القدرة على انتاج الأنسولين كليا، أما في النوع الثاني الذي ينتشر بين البالغين، فان الجسم يستمر بإنتاج الأنسولین ولكن ليس بكميات كافية تحول دون ارتفاع مستوى السكر في الدم.
قبل استخدام حقن الأنسولين في العام 1920 ، كان السكري بشكله الخطير يؤدي الى الموت المحتوم، اما الان فان المرضى يتطلعون الى حياة طبيعية عادية، وثمة اخبار حسنة من اطباء السكري يقولون فيها: «ان مرضى السكري يعيشون حياة اطول».
وفي العادة يتلف مرض السكري خلايا الشبكية وعدسة العين و الكلية ويعجل في حدوث تصلب الشرايين ويميت الأعصاب، وبوجود الاعصاب الميتة تفقد القدم الاحساس مما يجعلها عرضة للاذي، وبسبب اعاقة مجرى الدم فان شفاء الجروح يكون ابطاء، وتصبح الاصابة خارجة عن نطاق السيطرة، ويؤدي تلف الأعصاب وبطء الدورة الدموية في الرجل المصابين بالسكري الى بعض الضعف الجنسي، ويعرض الحوامل المصابات به لمواجهة المشكلات المتعددة من عيوب خلفية وولادة أجنة ميتة.
كيف يتسني لمرضى السكري احداث الدمار في الجسم؟
ان مستوى السكر في الدم لدى الانسان الطبيعي يتراوح بين 60 – 120 ملغم لكل 100 مل دم، في حين يصل تركيزه في الأشخاص المصابين الى ثلاثة اضعاف ذلك.
وهنالك آلية معقولة لتفسير تأثيره كان قد اقترحها الدكتور «ميشيل براونلي» من كلية البرت اینشتاين للطب في مدينة نيويورك. فقد لاحظ براونلي أن الجلوكوز يرتبط ارتباطا كيميائيا فعالا مع البروتينات في الدم وفي جدران الأوعية الدموية، ومع مرور الوقت تتجمع هذه الاجزاء الملتصقة مع بعضها مكونة ما اسماه براونلي «الغراء الممتاز». وكما تعيق الشظية حركة القدم، فان هذا الغراء الممتاز يكون مصدر ازعاج مستمر، مما يدل على أن الجسم يكون في حالة هدم في حين أنه بحاجة للبناء.
ان مضاعفات السكري ترتبط بشكل وثيق بارتفاع مستوى «السوربيتول Sorbitol»، وهو عبارة عن كحول سكري، حتى في غياب الانسولين فان هنالك خلايا محددة كتلك الموجودة في عدسة العين، تستمر في امتصاص الجلوكوز، ولكن بدون الأنسولين فان الجلوكوز لا يسير بمساره الطبيعي، فبدلا من ذلك تحوله الخلية الى «سوربيتول».
ان التراكم غير الطبيعي للسوربيتول يؤثر في العمليات الحيوية البيوكيميائية. حتى بعد ظهور المضاعفات، فان التكهن بما سيحدثه المرض ليس مروعا بشكل كبير، لأن الجراحة باستخدام الليزر تحفظ النظر «الرؤية». والجراحة تنقذ القلب والقدمين. والاهم من ذلك أن مضخات الانسولين وأدوات المراقبة البيتية تمكن المصابين بالسكري من مراقبة نسبة ارتفاع السكر في دمهم بدقة اكثر من ذي قبل، وبالمراقبة الجيدة، اصبحت النساء المصابات بالسكري يلدن مواليد اصحاء، بعد أن كن يحذرن من أن ينجبن الأطفال. و ان مرضى النوع الأول من السكري يلجأون عادة لاستخدام انظمة عناية وحمية صارمة فالمضاعفات طويلة الأمد تفزعني ، على حد قول احد المصابين بالسكري، البالغ من العمر خمسة واربعين عاما، فبدلا من ان يأخذ حقنة انسولین مرتين في اليوم، فقد بدأ بما يسمى معالجة مكثفة منذ اربع سنوات. وفي هذا المجال، كان على الدوام، بأخذ انسولين اكثر او اقل حسب الحاجة، وكان يضع حول وسطه الأنسولين بحجم جهاز الانذار الآلي، ويقوم بغرس ابرة رفيعة تحت الجلد مباشرة، أما اذا كانت هناك وجبات دسمة متوقعة، فانه يزيد جرعة الانسولين، التي يأخذها عن طريق زيادة الرقم، ويحمل على الدوام، ثاقبا للأصبع وجهاز مراقبة السكري بحجم الجيب. ويقوم بالتأكد من مستوى السكر لديه ثماني مرات يوميا، وينظم كمية الإنسولين بناء على ذلك.
البنكرياس عضو اصفر زهري اللون بحجم ثمرة الموز، يحتوي على ملايين الخلايا المتخصصة في صنع الانسولين على الدوام، وتخزنه بشكل حبيبات دقيقة، واستجابة لارتفاع مستوى السكر في الدم، فان هذه المصانع الصغيرة تطلق الحبيبات في مجرى الدم، فيهبط مستوى السكر ويتوقف اطلاق الأنسولين، وهذا بدوره يمنع هبوط السكر الى مستوى خطير، وبالتالي حرمان الدماغ من وقوده ، فيؤدي ذلك إلى فقدان الوعي، ولحسن الحظ، فان هذه الحالة التي تهدد الحياة وتعرف بهبوط نسبة السكر في الدم، يمكن استدراكها بسهولة بتناول شيء من الطعام أو شرب شيء حلو المذاق، وان المعالجة المكثفة بالانسولين ربما تمنع او تؤخر من حدوث المضاعفات ولكنها ايضا تزيد احتمالية حدوث الانخفاض بشدة في مستوى السكر في الدم، ولهذا السبب، كانت التجارب السريرية كي تحدد مدى ارتباط مستويات السكر في الدم مع تطور المضاعفات.
مضت سنوات طويلة على الباحثين الطبيين وهم يتطلعون، ليس فقط الى ضبط مرض السكري ، وانما إلى منع حدوثه ايضا، فبالنسبة للنوع الاول من مرض السكري، فان ضبطه يبدو سهلا وقريب المنال. ومثلما هو الحال بالنسبة لتصلب الشرايين والتهابات المفاصل الروماتيزمية، فان النوع الاول من مرض السكري يعرف بانه اضطراب في المناعة الذاتية، وهذا يعني أن الخلايا المنتجة للانسولين في البنكرياس هاجمتها خلايا مسؤولة عن حماية الجسم من الفيروسات والأحياء الأخرى الغازية ولكن النوع الأول من مرض السكري يصيب نسبة 10% من مجموع المصابين بالسكري.
وعلي النقيض من ذلك، ففكرة أن النوع الثاني من مرض السكري اقل قسوة وحدة جعلت التعامل معه اكثر صعوبة. وحتى اخيرا، كان كثيرون من الأطباء يعتقدون بان النوع الثاني من المرض غير ضار واوصوا المرضى بعدم القلق.
ان القابلية لزيادة الوزن ،البدانة، مع تقدم العمر توضح بشكل كبير لماذا يصيب هذا المرض غالبا الأشخاص الذين تتعدى اعمارهم الاربعين. ففي الأشخاص البدينين تصبح الخلايا غير نشيطة بشكل سريع، مما يقلل حساسيتها للانسولين وشهيتها للسكر كذلك، وللتعويض يقوم البنكرياس بضخ كميات اكثر فأكثر من الأنسولين وهو في العادة قادر على الاستمرار لمجابهة حجم العمل.
وفي المراحل الأولى من المرض يعطي مرضی النوع الثاني من السكري فرصة لإرجاع نسبة السكر في دمهم الى المستوى الطبيعي بتقليل اوزانهم، وإذا تطور المرض في كلا الأبوين قبل منتصف مرحلة سن الرشد فان احتمالية اصابة الطفل بالمرض تبلغ نسبة 80%.
وسواء كان مرضى السكري يعانون من النوع الاول او النوع الثاني للمرض، فانه يتوجب عليهم تعلم متابعة مرضهم وتدبير شؤونه على قاعدة يومية روتينية.
ان كل فلس ينفق على تعليم المرضى، وتوجيههم عن هذا المرض سيساعد في توفير المال اللازم للرعاية الصحية ومنع حدوث المعاناة طويلة الامد بسببه.
صيدلانية: سلوى عمارين
اختصاصية التحاليل الطبية
مصدر الصورة
pixabay.com