د. محمد القضاة *
فما من شك في أن الأسباب الرئيسية للوفاة والعجز في العالم اليوم، هو حياة من يطلق عليه العرب منذ القديم اسم : (( القعدة )) ، وهي الحياة الخالية من النشاط البدني . إذ تشير تقديرات منظمة الصحة العالمية، إلى أن مليوني وفاة تحدث في العالم سنوياً ، نتيجة انعدام النشاط البدني.
وهذا لعمري أخطر من السل ، الذي يصيب قرابة مليون وسبعمائة ألف نفس في كل عام . أضف إلى ذلك أن اجتماع انعدام النشاط البدني مع النظام الغذائي الخاطئ والتدخين، هو السبب القاطع لغالبية حالات مرض القلب التاجي المبكرة ؛ والعديد من أنواع السرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم واضطرابات شحوم الدم وتخلخل العظام والاكتئاب والقلق .
وتشير التقديرات عامة ، إلى أن أكثر من ستين بالمئة من سكان العالم لا يمارسون النشاط البدني الكافي الذي يعود عليهم بالفوائد الصحية ، ولا سيما منهم الفتيات والنساء . ومن الواضح الجلي، أن معظم بلدان إقليم شرق المتوسط يتعرض لتغيرات سريعة في أنماط الحياة ، والظروف الاجتماعية . ويمكن أن تعزى هذه التغيرات أصلاً ، إلى ما أسفرت عنه وسائل الإعلام والاقتصاد .
على أن معدلات الوفيات الناجمة عن الأمراض السارية ، آخذه بالتناقص ، بينما تتزايد معدلات مأمول الحياة يوماً بعد يوم . ويضاف إلى ذلك ، من جهة أخرى ، أن عادات الأكل كانت عرضة للتغير والتبدل . ثم إن حياة القعدة ( أو انعدام الحركة البدنية ) ، قد أصبحت حتماً مقضياً في المدن بصورة أساسية . وكذلك فإن توافر فرص استعمال وسائل الإعلام ووسائل الاتصال ، على هذا النحو المتزايد ، قد أحدث تغييراً جذرياً في عادات العيش والتسلية ، في جميع أنحاء العالم بما في ذلك هذا الإقليم الذي نعيش فيه ، وفوق كل ذلك تعتبر معاقرة التبغ والمخدرات ، من المشكلات الاجتماعية والصحية الرئيسية في من بلدان الإقليم
.
ويثير فرط الوزن والسمنة ، قلقاً متزايداُ في معظم بلدان الإقليم ، وعلى الرغم من أن المعطيات التي تمثل الوضع الفعلي لهاتين العلتين لا تتوافر في كل البلدان ، فأن المعلومات المتاحة في الوقت الحاضر ، تؤكد أن أكثر من ثلاثين بالمئة من البالغين في معظم بلدان الإقليم يعانون ألواناً متفاوتة من فرط الوزن والسمنة . بل إن معدلات السمنة بين الإناث بالبالغات ، تصل إلى قرابة أربعين بالمئة في بعض هذه البلدان . وإن من الأهمية بمكان أن ندرك أن مشكلة السمنة وفرط الوزن ليست مشكلة مجتمعات الوفرة فحسب فقد أثبتت الدارسات العلمية أن البلدان التي لا تزال تعاني من ارتفاع معدلات انتشار سوء التغذية في هذا الإقليم ، وتكافح جاهدة للتغلب على عبء الأمراض غير السارية في المستقبل القريب ، وما لم يتم التصدي لهذا العبء المزدوج على النحو المناسب الفعال ، فإنه سينشر الخراب والدمار في هذه البلدان .
وثمة أدلة ساطعة على الربط بين حياة القعدة والأمراض غير السارية ، وبين الفقر والعنف وضيق الأماكن ، وتلوث البيئة ، وتضاؤل فرص الحصول على خدمات الرعاية الصحية ، وضعف التعاون في ما بين مختلف القطاعات ومختلف الشركاء في العمل الصحي . على أن من المؤسف أيضاً أن هناك نقصاً في الوعي ، حول أهمية النشاط البدني ، باعتباره إجراء وقائياً تقتضية أنماط الحياة الصحية . ثم إن هنالك ضعفاً واضحاً في الالتزام والدعم السياسي بسبب عدم كفاية المعطيات اللازمة حول مستويات الأنشطة البدنية واتجاهاتها ، ومحدداتها في المجتمعات المختلفة . أضف إلى ذلك أن حجم التعاون القائم في ما بين مختلف القطاعات المعنية ، وفي بعض المجتمعات المحلية لا يفي بالغرض .
وأخيراً وليس آخراً قد تكون المعتقدات الاجتماعية والثقافية في عدد من المجتمعات هي العائق الذي يحول بين الناس من مختلف الأعمار ذكوراً وإناثاً ، وبين المشاركة في الأنشطة البدنية .
أن عملية الوقاية من الأمراض غير السارية ومكافحتها ، إنما تبدأ من قبل أن يولد الإنسان . ولذلك فينبغي أن ننظم جهودنا على أساس الدورة الحياتية ، التي تبدأ مع بداية الحمل ثم تنتقل إلى مرحلة الرضاعة وتغذية الطفل ؛ ومن بعد ذلك التقدم في العمر حتى سن الشيخوخة ، حيث يصبح الأكل الصحي والحياة اليومية النشطة ، من أهم مقومات اجتياز جميع مراحل العمر ، حتى سنواته المتقدمة في صحة وعافية .
وخلافاً لما دأبت وسائل الإعلام العالمية على تصويره ، على مدى العقود الماضية ، لا يحتاج المرء إلى أن يكون رياضياً محترفاً ، أو مدرباً متمرساً في الرياضة التنفسية aerobics ، لكي يعتبر نشيطاً بدنياً ، فثلاثون دقيقة من النشاط الجسمي المعتدل كالمشي يومياً أو معظم أيام الأسبوع تحقق لصحتنا نفس القدر من الفائدة ، دون عناء يذكر وحتى أشد الناس انشغالاً بأمور الدنيا ، يستطيع أن يضمن نظام حياته اليومي ثلاثين دقيقة من النشاط البدني .
إن الحياة التي وصفناها بحياة القعدة ، لا تقتصر على السلوك الفردي . فأماكن العيش المكتظة بالسكان ، وتلوث البيئة وعد توافر المتنزهات وأرصفة المشاة المأمونة ، ،كلها أمور تسهم في تكوين هذا النمط غير الصحي لحياة الإنسان . وكذلك فإن تكثيف أنشطة الوقاية وتعزيز الصحة لم يكن من الأولويات على جداول أعمال المعنيين برسم السياسة الصحية . والتحدي المستقبلي المنتظر في هذا المجال ، هو إدراك أهمية المبادرة إلى العمل الآن على أمل جني ثماره في المستقبل ؛ والإقرار بأن الوقاية من الأمراض هي بمثابة تنافس شريف تستوي فيه الحكومات مع الأفراد . وعلى مختلف الشركاء من خارج القطاع الصحي ، أن يحققوا الترابط والانسجام ، بين خططهم وأنشطتهم العملية ويشمل ذلك كلا من الحكومات المحلية ، وقطاعات التعليم والنقل والرياضة ، والصناعة ، والتجارة والمجتمع المدني .
* مستشار طبي وتغذية