ثمة محاولة في بلدان عدة تجري، من غير أن يلاحظها الكثيرون، في اتجاه المحافظة على عنصر حيوي اخر من عناصر حماية الأطفال، الا وهو الرضاعة الطبيعية، أي اغتذاء الطفل على حليب الأم.
إن الرضاعة من الثدي تشكل شبكة أمان طبيعية ضد أسوأ عواقب الفقر. واذا استطاع الطفل الصمود في الأشهر الخمسة الأولى التي تعقب الولادة (وهي اخطر مراحل الطفولة على الإطلاق)، فان اربعة اشهر إضافية يقصر فيها غذاؤه على حليب الام من شأنها تقليل الفوارق الصحية كثيرا بين طفل ابصر النور في بيئة غنية.
وما لم تكن صحة الأم الغذائية متدهورة جدا، فالحليب الذي يدره صدر ام في قرية افريقية لا يقل جودة عن حليب ام في إحدى شقق منهاتن الفخمة في مدينة نيويورك والطفل الذي يتلقى حليب الام الطبيعي في هذه المرحلة مؤهل للتمتع بصحة جيدة سواء أكان تحت أفقر سقف في احد البلدان النامية او تحت أغناه في أوروبا او أميركا الشمالية وهكذا تبدو وظيفة حليب الام في البيئات الفقيرة انتشال الوليد من الفقر خلال الأشهر الأولى الحاسمة من حياته لتأمين بداية أكثر عدالة له والتعويض عن الظلم الاقتصادي الذي ولد وسطه.
إلا أن ثمة أدلة ظهرت في الآونة الأخيرة على تسرب الضعف إلى هذه الوسيلة لحماية الأطفال ففي مدن كثيرة من العالم النامي، اخذ اعتماد الإرضاع الطبيعي ومدته يهبطان سريعا.
وبتشجيع، معظم الأحيان، من ممارسات المستشفيات وإذعان الأطباء وإعلانات المصانع والشركات عن حلب الأطفال الجاهزة ومقتضيات الوظيفة خارج المنزل والاقتناع بان الإرضاع الاصطناعي أكثر تطورا.
عودة إلى الإرضاع الطبيعي
قبل الجيلين الماضيين، كان جميع أطفال الجنس البشري يرضعون حليب أمهاتهم وحتى في العام 1911 ، كان ثلثا اطفال اميركا الذين انهوا عامهم الأول يرضعون من الثدي اما في العام 1973 فكان ربع الاطفال الأميركيين فقط يرضعون طبيعيا بعد ولادتهم ولم يحظ سوى 10 في المئة منهم برضاعة حليب امهاتهم بعد اكمالهم الشهر الثالث.
وسرعان ما لحقت اوروبا بالركب . فهبطت نسبة اطفال السويد الذين ما زالوا يرضعون كليا من الثدي بعد اكمالهم الشهر الثاني من 85 في المئة عام 1944 الى 35 في المئة عام 1970 . وفي هولندا عام 1975 كانت نسبة الأطفال الذين يرضعون كليا من الثدي بعد إكمالهم الشهر الثالث لا تزيد على 11 في المئة .
العصرنة كانت خلف هذا التبدل كله فقد ازداد عدد النساء العاملات، ورأت كثيرات منهن في زجاجة الإرضاع رمزا للتحرر واستغلت شركات الحليب الاصطناعي هذه الموجة العصرية، فأنزلت إلى السوق أصنافا جديدة وراحت تروج لها إعلاميا وراقت البدائل الاصطناعية أعدادا كبيرة من الآباء والأمهات والأطباء في عصر بدا الجميع متحمسين بلا تحفظ لكل ما هو عصري «علمی» واذ بات عدد اكبر من الأطفال يولد في المستشفيات، أدي التشديد على أهمية النظافة والترتيب إلى إظهار الرضاعة من الثدي كعملية «وسخة» وقليلة الترتيب وصار الأطفال يسلخون عن أمهاتهم فور الولادة لتسهيل العمل وتسريعه في المستشفى .. وأصبحوا يأكلون كما يقضي البرنامج المرعي وليس كما تقضي رغبتهم.
غير أن رضاعة الثدي استعادت جانبا كبيرا من مكانتها في الغرب خلال ثمانينيات القرن الماضي، واليوم يرضع 95 في المئة من أطفال النرويج وفنلندا والسويد حليب أمهاتهم بعد الولادة و في الولايات المتحدة ازدادت نسبة الأمهات اللواتي يرضعن مواليدهن أكثر من ضعفين بين عامي 1973 و 1980 وينعم نحو 70 في المئة من اطفال المانيا الاتحادية بحليب امهاتهم بعد إكمالهم شهرهم الثاني.
وكما حصل في موجة الارتداد السابق عن الإرضاع من الثدي، كانت النساء المتعلمات هن قائدات هذه الرجعة اليها. وقد أظهرت دراسة أجريت في الولايات المتحدة عام 1980 أن نحو 70 في المائة من الأمهات اللواتي يحملن درجات جامعية كن يرضعن أطفالهن من صدورهن، مقابل 20 في المائة فقط من الأمهات اللواتي تلقين تسع سنوات من الدراسية او اقل.
فما الذي أعاد الإرضاع الطبيعي إلى العالم الغربي؟
إن إيمانا قويا بأفضلية حليب الأم الطبيعي حفز جماعات من النساء على تأسيس تنظيمات لدعم الأمهات المرضعات فنشأت رابطة لا ليتشي في أميركا و اميجلبن في النروج وجمعية الأمهات المرضعات في استراليا.
في هذه الأثناء باتت النظرة الى التقنيات العصرية أكثر نقدية وعاد الاحترام الى عالم الطبيعة وعززت الأبحاث العلمية في السبعينات هذا الاتجاه عبر اكتشاف حقائق كثيرة حول الفوائد الغذائية والمناعية والعاطفية لرضاعة الثدي.
وما لبث أهل الطب وأهل الحكم حتى أولوا هذه الأمور اهتمامهم الجدي. فنظمت في السويد حملة وزارية لتعزيز الرضاعة الطبيعية وأعلنت حكومات الولايات المتحدة أنها ستأخذ على عاتقها الترويج للإرضاع الطبيعي كمبدأ أساسي للسياسة الصحية في الولايات المتحدة وهي تهدف بذلك الى رفع نسبة المواليد الذين يرضعون حليب امهاتهم الى 75 في المئة.
اما العالم النامي فيشهد اليوم ظاهرة انحراف مماثل عن الإرضاع الطبيعي، تقوده هنا ايضا الأمهات المتعصرنات والمتمدنات غير ان الأمهات الفقيرات لا يكسبن من المال ما يكفي لشراء الكميات الضرورية من الحليب المجفف وهن يفتقرن إلى الماء النظيف لتذويبه والى المعدات اللازمة التعقيم الزجاجات والحلمات والي العلم القراءة التعليمات المفصلة من هنا، فان ارتدادا واسع النطاق عن الإرضاع الطبيعي في البيئات الفقيرة سيعني وفاة ملايين أكثر من الأطفال الرضع وابتلاء ملايين إضافية بسوء التغذية .
إن نشر المعارف المتعلقة بالارضاعه الطبيعي، أذ فضلا عن تشجيعة شرط ضروري لكي ينجو العالم الثالث من الخطر الداهم، ولكي يدرك في وقت اقصر مما اقتضاه الغرب، أن حليب الأم هو أفضل غذاء.
من اوراق منظمة الأمم المتحدة للاطفال
(اليونسيف)