أعلنت كلية الأطباء الملكية البريطانية في أحدث تقاريرها حول التدخين، أن مادة النيكوتين الموجود في السجائر هو مادة إدمان قوية تعادل الهيروين والكوكايين، ومن ثم يجب إخضاعها للرقابة مثل الموادّ المخدرة، وهو ما رفضته مؤسسات صناعة التبغ في جميع أنحاء العالم، مدعية أن التقرير مبالغ فيه، وبغضِّ النظر عن مدى صحة التقرير.. فإن الجميع يعترف بأضرار التدخين على صحة الإنسان، وأن له جوانب اقتصادية على كافة المستويات، ومن هنا يثور التساؤل المحوري:
هل تخضع ظاهرة التدخين للتحليل الاقتصادي المجرَّد في تفسير سلوك المستهلك المدخِّن مثلها مثل أي سلعة أخرى، أم أن هناك بُعدًا آخر في المسألة، وهو البعد الأخلاقي؟ نظراً للأضرار الصحية التي يسبِّبُها التدخين، وهل يؤدي الحد من الطلب على التبغ إلى الإضرار بالاقتصاد، وأيهما أولى: حماية صحة المجتمع أم صناعة التدخين؟
التدخين أكبر سبب للوفاة في العالم
وحتى نجيب على تلك التساؤلات نشير إلى أن عدد المدخنين في العالم يبلغ حوالي 1,1 مليار شخص، ويتوقَّع أن يصل هذا الرقم إلى 1.6 مليار بحلول عام 2025 وفقًا للمعدلات الحالية، حيث إن مستوى التدخين يزداد ضمن الدول ذات الدخل المنخفض والمتوسط، في حين ينخفض في الدول ذات الدخل العالي “رغم أنه يزداد ضمن فئات معيَّنة في هذه الدول”، كما تعتبر الأمراض المتعلِّقة بالتدخين مسئولة عن حالة وفاة واحدة بين كل عشر حالات وفاة ضمن صفوف البالغين على مستوى العالم، ويتوقَّع أن يرتفع هذا الرقم إلى حالة من بين كل ست حالات في عام 2025، وربما في تاريخ أقرب من ذلك، مما يجعل التدخين أكبر سبب منفرد للوفاة في العالم، وبحلول عام 2020م سيكون 6 حالات من كل 15 حالة وفاة سببها الأمراض المرتبطة بالتدخين من الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض، وهي الدول التي تشمل العديد من دول العالم العربي والإسلامي.
إن مشكلة التدخين ليست وليدة اليوم أو الأمس، وقد تطوَّرت حتى أصبحت ظاهرة عالمية، ومما ساهم في انتشار هذه الظاهرة على المستوى العالمي هو أن أضرارها الصحية لم تكن معلومة في البداية، الأمر الذي ساهم في الاستهانة بهذه الظاهرة على الصعيدين المحلي والدولي، حتى أصبحت صناعة اقتصادية تدرّ مليارات الدولارات على الشركات المنتجة وتوظف آلاف العمال في صناعة وزراعة التبغ. كما أصبح إنتاج وصناعة التبغ جزءًا من الدخل القومي، وصادرات العديد من الدول، وبندًا أساسيًا من بنود الواردات تتعهَّد الدول نفسها بتوفيره.
وقد تنبهت الدول مؤخرًا إلى أضرار التدخين على الصحة العامة بعد ظهور الدراسات التي توضِّح نسبة ارتباط عالية بين عادة التدخين وبعض الأمراض الخطيرة؛ مثل السرطان، وتصلب الشرايين، وأمراض القلب وغيرها وما يترتَّب على ذلك من تكاليف إضافية في مجال الرعاية الصحية وخسارة في أيام العمل بسبب المرض، إضافة إلى الفقد في القوى العاملة بسبب العجز الكلي أو الموت المبكر، ومع ذلك.. فإن هذه الدول كانت في مرحلة ما لا تستطيع حظر تعاطي وتداول التبغ، لأن ذلك يعني:
1- فقدان آلاف الوظائف في صناعة وزراعة وتوزيع التبغ.
2- انخفاض الدخل القومي في الدول المنتجة والمصنِّعة للتبغ.
3- تقلص وفقدان إيرادات الحكومة من الضرائب على التبغ.
وهذا الأمر دفع الدول إلى اللجوء لبعض الإجراءات القاصرة في مكافحة هذه الظاهرة؛ مثل طباعة عبارة صغيرة في ركن مغمور من علبة السجائر تقول: “التدخين ضار جدًا بالصحة” أو “ننصحك بالابتعاد عن التدخين”، في نفس الوقت الذي تشتدّ فيه الحملات الإعلانية لشركات التبغ التي تشيد بنكهة ومذاق السجائر!
التدخين السلبي
أكثر الإجراءات التي لجأت إليها الدول لمكافحة التدخين جدية هو حظر التدخين في الأماكن العامة، ومع ذلك فإن هذا الإجراء يعتمد بصورة كبيرة على مدى سعة تعريف المكان العام. وقد تواكب مع ذلك ظهور الجدل حول الأضرار الصحية التي يتكبدها غير المدخنين من جراء استنشاق الدخان الناجم عن ممارسة التدخين من قبل الآخرين أو ما يسمى بعملية “التدخين السلبي”، وسعت العديد من المؤسسات والشركات لتخصيص أماكن للمدخنين وأخرى لغير المدخنين في المطاعم ووسائل النقل وغيرها حتى لا تفقد أموال أي من الشريحتين.
هذا الجدل آثار تكاليف الرعاية الصحية التي تنفق على الأمراض الناجمة عن التدخين؛ ففي الدول ذات الدخل المرتفع تشكل هذه التكاليف ما بين 6 إلى 15% من مجمل التكلفة السنوية للرعاية الصحية، ويتحمَّل غير المدخنين جزءًا هامًا من هذه التكلفة.
مخاوف واهية للحكومات
وفي إطار مكافحة التدخين.. تتوفر لدى الحكومات مخاوف عديدة من مكافحة التدخين، لما لها من آثار اقتصادية، إلا أن هذه المخاوف لها ردودها التي تجعل منها مخاوف واهية لا تكفي للإقناع بتوقف تلك الدولة عن مكافحة التدخين بطرق حاسمة، وذلك على النحو التالي:
أولاً: إن انخفاض الطلب على التبغ لا يعني بالضرورة انخفاضًا دائمًا في مستوى التوظُّف بالاقتصاد المحلي، نظرًا لأن الأموال التي أحجم المدخنون عن إنفاقها بسبب الحدّ من استهلاك التبغ سوف توجَّه للإنفاق على سلع وخدمات أخرى، وسيتم تعويض الفاقد في صناعة التبغ تلقائيًا بواسطة صناعات أخرى. وفي هذا الصدد.. يوضِّح التحليل العملي أن معظم البلدان لن تتعرض لخسارة في مستوى التوظف، بل إن بعضها قد يحقِّق مكاسب صافية إذا ما انخفض استهلاك التبغ، كما أن الأثر على الدول التي تعتمد اقتصاداتها بشدة على زراعة التبغ سيكون محدودًا على الصعيد المحلي، إلا أن انخفاض الطلب العالمي سوف يؤثِّر على مستويات التوظيف في هذه الدول، وعندها ستكون سياسات التعديل مطلوبة، ومع ذلك.. فإن هذا التأثير سيكون بطيئًا، ويستغرق عقودًا من الزمن.
ثانياً: توضِّح الدراسات العملية أن رفع الضرائب غير المباشرة على التبغ بنسبة 10% على مستوى العالم ككل سوف يرفع الإيرادات بنسبة 7% بشكل عام، وقد تختلف النسبة من دولة لأخرى؛ كما تشير التقديرات.. فإن فرض الضرائب على التبغ بنسبة 10% في الصين سوف يرفع إيرادات الدولة بنسبة 5%، ويخفض استهلاك التبغ بنسبة 5% أيضًا؛ حيث تكفي هذه الإيرادات لتمويل برامج رعاية صحية لما نسبته 30% من الصينيين الفقراء.
ويعتبر أسلوب الحد من الطلب عن طريق الضرائب غير المباشرة أكثر فاعلية من أسلوب تقييد عرض التبغ؛ حيث يكون ارتفاع السعر حاسمًا في تخفيض الاستهلاك، خاصة في أوساط محدودي الدخل والمراهقين الذين لا دخل لهم، كما أن ارتفاع السعر يحفِّز المدخنين الحاليين للإقلاع عن هذه العادة، كما أنه يحول المدخنين المحتملين من مباشرة التدخين.
ورغم ذلك.. لا ينبغي إغفال الآثار السلبية المحتملة لفرض الضرائب، وأهمها:
1- نشوء ظاهرة تهريب التبغ بسبب ارتفاع السعر المحلي.
2- آثار توزيع الدخل الناجمة عن الضرائب، خاصة في البلدان التي تقع فيها نسبة كبيرة من المدخنين ضمن محدودي الدخل، وعليه.. فإن فرض الضرائب يجب أن يكون موضوعيًا وغير مبالغ فيه ومبنيًا على أسس، أهمها مستوى دخل الفرد وفئات المدخنين وغيرها من المعايير التي يجب أخذها في الحسبان لتحقيق الغرض الذي فرضت من أجله الضرائب. بمعنى ألا يكون الأمر جزافيًا، وأن تستخدم الإيرادات الناجمة عن هذه الضرائب في معالجة الأمراض المتعلقة بالتدخين، والتوعية الصحيحة للمجتمع لحثّ المدخنين الحاليين على التوقف عن هذه العادة، وحماية الأطفال والمراهقين من الانخراط فيها، وألا نستخدم حصيلة الضرائب في تمويل أنشطة لا عائد لها بالشكل الذي تمارسه الكثير من الحكومات حاليًا.
ضرائب مكافحة الموت
إن الاستخدام للآليات الاقتصادية “العرض، الطلب، الأسعار..” في حد ذاتها يُبنى على فلسفة المجتمع ومقاصد الدولة من استخدام هذه الوسائل؛ فعملية فرض الضرائب غير المباشرة على التبغ قد تستهدف تحقيق العديد من الأغراض مثل:
1- تحقيق عوائد مالية للدولة لاستعمالها في الأغراض المختلفة.
2- تخفيض الأمراض الناجمة عن التدخين وتحسين الصحة العامة.
وعليه فإن حجم ونسبة الضرائب التي ستفرض على التبغ تعتمد على أي من الأهداف سالفة الذكر التي يرغب المجتمع في تحقيقها، ففي الدول الغربية يتم استخدام حصيلة الضرائب في مكافحة الأمراض الناتجة عن التدخين، ومن هنا أصبحت صناعة التبغ صناعة وطنية يفترض عدم الإضرار بها؛ لأن ذلك يعني الأضرار بالاقتصاد، ويتعارض مع حرية الفرد والنشاط الاقتصادي وفق فلسفتها، وحتى لو أعلنت هذه الدول عن كونها تسعى إلى حماية الصحة العامة سنجد أنها غير جادة فعلاً في تحقيق ذلك، ففي الوقت الذي يسعى فيه المختصون والمؤسسات الصحية إلى تخفيض استهلاك التبغ يُسمح لمصنعي التبغ في نفس الوقت بشن الحملات الدعائية الضخمة بمليارات الدولارات لترويج الطلب عليها، ويمكننا أن نطلق على هذه الضرائب في مثل هذه الحالة “ضرائب للتعايش مع الوضع” بينما في أغلب دول العالم الثالث تكون النقطة الأولى –وهي استخدام حصيلة الضرائب في إقامة البنية الأساسية- هي ذات الأولوية نظرًا لوجود العجز المالي وعدم الوعي التام بمخاطر التدخين، وفي مثل هذه الحالة يمكننا أن نسمى هذا النوع من الضرائب “ضرائب تمويل العجز” وتشكل النقطة الثانية الأولوية المثلى للدولة التي تقدر الإنسان وتعتبره رأس المال الأساسي والهدف النهائي للتنمية كما تعكس الالتزام الأخلاقي تجاه هذه الظاهرة على اعتبارات التنمية في خدمة الإنسان وليس العكس، ويمكننا أن نطلق على هذه الضرائب في مثل هذه الحالة “ضرائب مكافحة الموت”.
البعد الأخلاقي لمكافحة التدخين
قوة الإجراءات والوسائل التي تتَّخذها الدولة لمقاومة التدخين تعتمد على الهامش المقبول من الظاهرة لدى الدولة المعنية، وعلى أولويات ومبادئ وقيم المجتمع السائد، ففي النظرية الاقتصادية.. يعتبر المستهلك نفسه أفضل من يحدّد كيف ينفق أمواله على السلع والخدمات، فهو يقوم بالمقارنة بين السعر الذي يدفعه من جهة، والمنافع والأضرار التي يجنيها من شراء هذه السلعة أو غيرها، وهو ما يؤدي في النهاية إلى التخصيص الأمثل لموارد المجتمع، ووفقًا لهذا التحليل.. فإن المدخن يرى أن الفوائد التي يجنيها من السجائر مثل المتعة أو إزاحة الهموم والآلام النفسية -من وجهة نظر المدخن طبعًا- تفوق التكاليف التي يتكبدها، والنتيجة أنه أصبح مدخنًا، ومع ذلك.. فإن تطبيق هذا التحليل على ممارسة التدخين ليس دقيقًا للأسباب التالية:
1- إن المدخنين في الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض لا يدركون تمامًا مخاطر التدخين، فقد أظهر استطلاع أجري في الصين عام 1996م أن 61% من المدخنين لا يعتقدون أن للتدخين أضرارًا على الإطلاق أو أنه يسبب أضرارًا بسيطة فقط، بينما في الدول ذات الدخل المرتفع يميل المدخنون إلى التقليل من هذه الأخطار.
2- التبغ يحوِّل المدخن إلى مدمن نتيجة لوجود النيكوتين، وبالتالي تصبح ظاهرة التدخين عادة سلوكية غير خاضعة لدوافع طبيعية يمكن تحليل الطلب عليها، مثل السلع والخدمات الأخرى.
إذا ما سلمنا فرضًا بصحة هذا التحليل لظاهرة التدخين.. فهل يمكن القبول به في مجتمعاتنا؟؟ إن التحليل العلمي للظواهر السلوكية سواء كانت ظاهرة التدخين أو غيرها يجب أن يتوفر فيه البعد الأخلاقي والقيمي، بمعنى أن يحقق الشرطين التاليين:
أ- عدم التناقض مع أخلاقيات المجتمع وقيمه العليا، ومن بينها مقاصد الشريعة، مثل حفظ النفس من التلف، وعدم الإلقاء بها في التهلكة.
ب- أن يكون عامًا، بمعنى أن ينطلق من وجهة نظر كلية للمجتمع، باعتبار أن القواعد والقيم العليا التي يتبناها المجتمع هي التي تحدّد المصالح والمنافع المعتبرة من وجهه نظره، فالمتعة واللذة التي وفَّرها التدخين للمدخن لا يمكننا تصنيفها كمنفعة أو مصلحة معتبرة تبرِّر الأضرار الجانبية الناجمة عن ممارسة هذه الظاهرة؛ إذ أنه طبقًا لهذا التحليل المبني على النظرة الفردية يمكن تبرير استهلاك السلع الضارة والممارسات التي تتنافى مع مبادئ وقيم المجتمع، مثل: الزنا، الشذوذ، شرب الخمر، المخدرات.. وغيرها.
من أجل برنامج شامل لمكافحة التدخين
إن عدم قطعية الأضرار الاقتصادية التي قد تسببها سياسات الحد من استهلاك التبغ تدعم فكرة التحكم في ظاهرة التدخين ومكافحتها، كما أن هذه الفكرة يجب أن تكون أحد مكونات ثقافة المجتمع وأحد المبادئ السائدة فيه إذا ما أردنا الحد من مضار التدخين فعلاً، نظرًا لأن البرامج الحكومية لا تضع ذلك في أولوياتها غالبًا لأن آثار التدخين طويلة الأمد، ولا تلاحظ إلا بعد عقود من الزمن، وعمر الحكومات القصير لا يمكنها من قطف ثمار جهودها في هذا المجال واستثمارها في صالح برامجها الانتخابية ورفع شعبيتها، وتشير التوقعات إلى أن عدد حالات الوفاة الناتجة عن الأمراض المتعلقة بالتدخين سيصل إلى 520 مليون حالة بحلول عام 2050م، وفقًا للمعدلات الحالية، غير أن هذه الرقم يمكن تخفيضه إلى 340 مليونًا لذات النسبة إذا ما تم بحلول عام 2020م تخفيض استهلاك التبغ بنسبة 50%.
وبعد هذا العرض.. فلا شك أن ظاهرة التدخين ظاهرة جديرة بالاهتمام، ليس على المستوى القطري فقط، بل على المستوى الدولي أيضًا، خاصة إذا ما علمنا أن البلدان المنتجة والمصدرة للتبغ تسعى إلى الحد من أضراره محليًا، لكنها لا تقيد صادراته إلى الدول الأخرى، وإذا ما علمنا أن معظم بلدان العالم العربي والإسلامي هي مستورد لسلعة التبغ والسجائر لذا فإن الحد من استهلاكه والتحكم في ظاهرة التدخين سيحقق مصلحة مزدوجة تتمثل في:
1- تحسن حالة الصحة العامة
2- تحسن الميزان التجاري وتوفير العملة الصعبة.
وقد أوحى البنك الدولي في تقريره الذي حرَّره مؤخرًا حول التحكم في التبغ بالآتي:
أولاً: أن تنتج الحكومات التي ترغب في كبح التدخين الوبائي أسلوبًا متعدد الوسائل يمكن أن يتضمن البنود التالية:
-رفع الضرائب لتصل إلى 2/3 أو ¾ كحد أدنى من سعر البيع القطاعي لعلبة السجائر.
– تبني حظر شامل ضد الحملات الإعلانية التي تروِّج للتبغ.
– نشر وتوزيع الدراسات والبحوث التي توضِّح آثار التدخين السيئة على الصحة.
ثانيا: يجب على المؤسسات والوكالات الدولية عرض برامجها وسياساتها التي توضح أن سياسات الحد من استهلاك التبغ نبعت من البحوث والدراسات التي تبين مساوئ التدخين، وإظهار البعد العالمي للظاهرة، مع دعم جهود منظمة الصحة العالمية لعمل إطار اتفاقية دولية للحد من استهلاك التبغ.