عندما تصل درجة حرارة قلب النجم البدائي إلى حوالي أربعة عشر مليون درجة مطلقة «كلفن» يبدأ ما يسمى الاحتراق النووي للهيدروجين على نطاق القلب كله، محولا النجم البدائي غير المستقر «المنهار» الى نجم مستقر ساطع، حيث أن ضغط الغاز والضوء يصل حدا بفعل الاحتراق النووي يفلح عنده في إيقاف انهيار النجم البدائي.
ولكن كيف توصل العلماء الى فكرة أن الاحتراق النووي للهيدروجين هو المسؤول عن استقرار النجوم وعن هذا الفيض الهائل من الطاقة الذي تبثه النجوم عبر مليارات السنين؟ ولنأخذ الشمس انموذجا للنجوم ، بالنظر الى قربها النسبي منا، ولنبدأ بذكر أهم خصائص الشمس.
يبلغ قطر الشمس حوالي 1.29 مليون كيلومتر، اي 108 مرة قدر قطر الأرض. أما كتلتها فتبلغ حوالي الفي مليار ملیار مليار كيلوغرام، أي حوالي ثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ألف مرة قدر كتلة الأرض، وتبلغ درجة حرارة سطح الشمس خمسة ألاف وسبعمائة وثمانين درجة مطلقة «كلفن» اما درجة سطوع الشمس، اي مقدار الطاقة التي تبثها الشمس في الثانية الواحدة ، فتبلغ حوالي ثلث مليار ملیار واط. ويقدر عمر الشمس بحوالي خمسة مليارات سنة .
وينسجم هذا التقدير مع القياسات المباشرة التي تمت لعمر الصخور على سطحي الأرض والقمر . إذ يبلغ عمر أقدم صخور على الأرض حوالي 3.8 مليار سنة ، اما نظيرتها على القمر فتبلغ حوالي 4.3 مليار عام . ويبلغ عمر النيازك والصخور القادمة من الشريط الواقع بين المريخ والمشتري 4.5 مليار عام ، اما الحياة على سطح الأرض فيبلغ عمرها 3.5 مليار عام .
ومن المعلوم أن الشمس هي كتلة هائلة من الغاز . لكنها مع ذلك عديمة الشفافية وضعيفة النفاذية للضوء بفعل كثافتها العالية ، فالضوء المنطلق من قبلها يأخذ وقتا طويلا جدا «مليون عام في المتوسط » حتى يصل الى السطح ويخرج من إطارها .
ما سر هذه الطاقة الهائلة التي تدل البيانات على أنها استمرت بالتدفق من الشمس بهذا المعدل الهائل المذكور أعلاه لمدة خمسة مليارات عام ؟ هذا هو اللغز المحير الذي بدأ يجابه العلماء منذ القرن التاسع عشر .
وكانت اول محاولة جدية لتفسير هذا اللغز هي تلك التي وضعها الفيزيائي الانجليزي اللورد كلفن والفيزيائي الالماني هرمان فون هیلمهولتز في الستينيات من القرن الماضي. وارتكزت تلك المحاولة إلى الافتراض بان المصدر الوحيد لهذه الطاقة هو المجال الجاذبي للشمس ، أي أن هذه الطاقة هي نتاج تحول الجاذبية إلى حرارة ، فمع انكماش الشمس تتحول طاقة الوضع الجاذبية الجزيئات الغاز المكون للشمس الى طاقة حركة ، يتمظهر ازديادها على صورة ارتفاع في درجة حرارة الغاز ، ويمكن لهذا الانكماش « الانهيار» الجاذبي أن يرفع درجة حرارة قلب الشمس إلى أربعين مليون درجة مطلقة كلفن وعلى هذا الأساس ، فان الشمس تنكمش باستمرار لكي تعوض عن الحرارة التي تفقدها باستمرار لمحيطها .
وقد حسب كلفن و هیلمهولتز معدل الانكماش اللازم لإنتاج ما تفقده الشمس من طاقة « ثلث مليار مليار ملیار واط، كما اسلفنا » فوجدا أنه يساوي حوالي عشرين مترا في السنة ، ثم حسبا عمر الشمس على هذا الأساس ، فوجدا أنه يبلغ مائة مليون سنة .
واعتبرا هذا العمر معقولا في ضوء المعلومات التي كانت متوافرة آنذاك وبصورة عامة ، فقد رضي علماء ذلك العصر بهذا التفسير واعتبروه معقولا . لكنه أخذ يتهاوی بصورة متسارعة في مطلع القرن العشرين . حين بدأ يتبين للعلماء أن صخور الأرض أقدم بعدة مرات من هذا العمر المزعوم للشمس.
وبدأوا يدركون أنه لا يمكن أن تكون الجاذبية المصدر الوحيد لطاقة الشمس. فلا بد ان يكون هناك مصدر آخر لهذه الفيض الهائل من الطاقة المنبعثة، ولا بد ان يفوق هذا المصدر الجاذبية قدرة بكثير . لكن اكتشاف هذا المصدر استلزم التطورات الكبيرة التي شهدتها الفيزياء في النصف الأول من القرن العشرين. وفي مقدمتها اكتشاف تركيب الذرات ومكوناتها ، وبناء نظرية النسبية ، وبناء ميكانيك الكم «الكونتم» واكتشاف النيوترون ، واكتشاف القوة النووية القوية وقانونها ، ومعرفة آليات التفاعلات النووية ، واكتشاف حقيقة أن الهيدروجين هو العنصر الطاغي في مادة الشمس والنجوم.
وكانت أول خطوة رئيسية على درب معرفة المصدر الرئيسي لطاقة الشمس هي تلك التي خطاها الفلكي البريطاني الكبير السابق ذكره ، السير ارثر اذنغتون، عام 1926 ارتكازا الى معادلة اينشتاين المشهورة التي تربط الكتلة بالطاقة ( الطاقة تساوي الكتلة ضرب مربع سرعة الضوء ) . وهي المعادلة التي تعبر عن امكانية تحويل الكتلة الى طاقة والعكس بالعكس ، اذ لاحظ ادنغتون أن كتلة ذرة الهيليوم اقل قليلا من مجموع کتل مكوناتها المنفردة «اربع ذرات هيدروجين» وعزا هذا النقص إلي تحول جزء صغير من كتلة مكوناتها الى فيض من الطاقة عند التحامها معا لتشكيل الهيليوم . ووجد أن هذا النقص يساوي حوالي سبعة أجزاء بالألف من كتلة ذرة الهيليوم ، وعليه ، فاذا تسنی تحویل اربع ذرات هيدروجين الى ذرة هيليوم، حصلنا على طاقة هائلة من فرق الكتلة ، ويمكن الحصول على اشعاعية الشمس الفعلية بتحويل ستمائة مليار كيلوغرام من الهيدروجين الى هيليوم في الثانية الواحدة ، وقد يبدو هذا الرقم خياليا ، لكنه في الواقع لا يتعدى ثلثا في المليار ملیار من كتلة الشمس. وعليه ، فإذا افترضنا أن الشمس في جلها مكونة من الهيدروجين ، يكون في مقدورها ان تسطع بهذه الاشعاعية العالية لمدة مائة مليار عام .
بذلك يكون ادنغتون قد أعطى تفسيرا مقنعا لطاقة الشمس في ضوء عمرها المديد . لكن ادنغتون لم يجب عن سؤالين كبيرين اثارتهما فرضيته ، وهما :
1- هل يمكن اعتبار الهيدروجين العنصر الطاغي في الشمس؟
2- هل يمكن حدوث الاحتراق النووي للهيدروجين في باطن النجم ، وكيف يتم هذا الاحتراق اذا كان حدوثة مكنا؟
د. هشام غصيب